جنون الهوس والاكتئاب

Manic-depression Psychosis
هذه المجموعة من الأمراض تمثل اضطرابا أساسيا في العاطفة ، يتبعه اضطراب في التفكير والسلوك الحركي : سرعة ( هوس ) أو إبطاء ( اكتئاب ) ، وهي تشمل طورين إكلينيكيين ، يتناوبان بانتظام أو بغير انتظام ، وأحيانا لا يظهر طوال حياة المريض إلى طور واحد (18)
تعريف ذهان الهوس والاكتئاب :
       هو مرض ذهاني ، يشاهد فيه الاضطراب الانفعالي المتطرف ، وتتوالى فيه دورات متكررة من الهوس والاكتئاب ، أو يكون خليطا من أدوار الهوس والاكتئاب ( وقد يتخللها فترات انتقالية يكون فيها الفرد عاديا نسبيا ) (7 )
هذا ، وكثيرا ما تتعاقب حالات الاكتئاب والهوس على المريض الواحد ، على هيئة نوبات أو دورات ، قد تفصل بينها فترات شفاء ، وعندئذ يصدق على هذه الحالة تسميتها بالجنون الدوري (36 )
       هذا وتبلغ نسبة انتشاره بين الشعب حوالي 0.5 – 1 % ، ولكنه يكثر بين المثقفين والطبقات العليا ... كذلك فإن نسبته تزيد في النساء أكثر من الرجال ، ولا يحدث هذا المرض إلا نادرا قبل البلوغ .. ويزيد انتشاره كلما تقدم سن الفرد (3) .
تصنيف ذهان الهوس والاكتئاب :
       هناك أنماط اكلينيكية ثلاثة لذهان الهوس والاكتئاب :
1 – الهوس ( حوالي 30 % ) .
2 – الاكتئاب ( حوالي 45 % ) .
3 – الذهان الدوري أو المختلط ( حوالي 25 % ) .
درجات طور الهوس :
1 – الهوس الخفيف Hypomania :
       ويتميز بأنه يحوي صفات المرض العامة ، أما علاماتها الإكلينيكية فهي :
أ – وجود ثالوث الهوس بدرجة طفيفة لا تصل إلى شدة ذهانية .
ب – يستطيع المريض أن يتحقق من وضعه وعلاقته مع البيئة .
ج – قلما يظهر المريض سلوكا شاذا لدرجة تتعارض مع المجتمع .
د – يبدو المريض مملوءا بالحيوية والنشاط ، لا يكاد يستقر في مكان .
هـ - يميل إلى التعدي ، فتكثر مشاجراته بعض الشيء ويحب السيطرة من حوله ولا يطيق النقد .
و – يرسم المريض كثيرا من الخطط والأفكار ، ويؤكد أنها سبيلها إلى حيز التنفيذ ، ولكنه عادة لا ينفذها بشكل جاد ، وهو يبدأ أغلب المشاريع دفعة واحدة ، ولكنه لا يصل بأيها إلى غايته .
ي – لا يتقيد المريض – أحيانا – بالقواعد الخلقية ، مما يوقعه تحت طائلة القانون .
ز – تظل ذاكرة المريض سليمة ، وقد تزداد حدة .
وفيما يلي حالة تدل على خصائص هذا النوع :
       عامل فني ، ( براد آلات دقيقة ) ، عمره ( 37 سنة ) ، متزوج منذ شهور ، وليس له أولاد . جاء يشكو من أرق شديد استمر مدة أسبوع " .... إنما مش هاممني ، أنا بس قلت يمكن الحالة تتطور ... أصل مفيش في الدنيا مستحيل ، أنا تعلمت البرادة بإيدي الشمال ، وتحديت وطلعت الأول في اختبار القبول ... وما عدش يهمني ، لما حد يبص لي في الأتوبيس أبص له وأضحك ، يضطر يضحك وأقفش معاه ، أقوم مااصعبش عليه عشان دراعي المقطوع ، أنا بكتب انجليزي وعربي بإيدي الشمال مع إني مش أشول ، أصل الإنسان لو عرف نفسه مافيش في الدنيا حاجة تساعه ، صحيح فيها صعوبات إنما دي من قلة التصرف أهو أنا مسافر اليمن بكره ... واتحدى ، بس خايف لا حسن الحالة تزيد علي أقوم أدخل المستشفى ، وهيه لما تزيد ما عرفش أتلم على نفسي ، واتلفت على كل اللي حوالي ، ويمكن أضرب أي حد يكلمني ... "
       وبدراسة تاريخه المرضي تبين أن هذه الحالة متكررة ( ثلاث مرات في خمس سنوات ) ، وأنه أحيانا يلجأ إلى العلاج قبل أن تشتد . وأحيانا أخرى تتطور حتى تصل إلى درجة الهياج فيدخل المستشفى . وقد ترسبت ثاني مرة بعد أن أصيب في الحرب ، واضطروا إلى بتر ذراعه اليمنى . هذا ، وقد فسر عدم إكمال دراسته رغم ذكائه البادي : " ..... كنت غاوي صنعه ، وكنت غاوي اللعب . وكنت غاوي ضرب الإنجليز " .
       وكان تاريخه العاطفي والجنسي حافلا .... أجاب عندما سئل عن خبراته قائلا " ... عاديك ... ماتعدش ... وفي الآخر اتجوزت عن حب . وماهمنيش حكاية إيدي ... " وكانت شخصيته قبل المرض موفورة الحيوية زائدة النشاط يزاول أكثر من عمل في وقت واحد .
       وهكذا نرى كيف يكون طيران الأفكار في حديثه ... يسيرا في أول المرض ، وكيف يتصف الهوس الخفيف بالمرح الزائد رغم الأرق المضني ، كما يتصف بالشعور بالقوة والسيطرة حتى على قوى الطبيعة ، ثم كيف تطور في النوبات السابقة إلى هوس حاد أدى إلى دخوله المستشفى .
       وقد عولج المريض بالعقاقير المهدئة فأحبطت النوبة ولم تتطور إلى أنواع أشد من الهوس الخفيف (18)
2 – الهوس الحاد Acute Mania : لا يوجد حد فاصل بين الهوس الخفيف والهوس الحاد ، فهما متداخلان ... إلا أن الهوس الحاد يتميز بشدة الثالوث الهوسي بوجه خاص ، كما يظهر في الصورة الاكلينيكية على الوجه التالي :
أ – إما أن يشتد بشكل يجعله أقرب إلى السخرية الهجومية ، ويفقد الجانب المشع منه ، وإما أن ينقلب إلى عدوان وغضب مع فرط في الحساسية ، يتناوب مع هذا المرح القاسي .
ب – يشتد انتباه المريض للمؤثرات الداخلية والخارجية على حد سواء ، ولا يستمر في اتجاه معين ، بل ينتقل من مؤثر لآخر .
ج – تضطرب علاقته بالبيئة ، فنراه لا يراعي الآداب العامة ، ويتصرف بشكل فاضح ، ويقول ويفعل ما ينافي الأخلاق والتقاليد المرعية .
د – أن الهلاوس أكثر حدوثا هنا على الهوس الخفيف ... ولكنها مؤقتة ومتغيرة عادة ، وتتفق مع الاضطراب الانفعالي الأساسي .
هـ- أن الضلالات – إذا حدثت – تكون متجهة إلى الشعور بالعظمة .
و – أن الأفكار تتطاير ( طيران الأفكار ) ، حتى تبلغ من سرعتها عدم ترابط ظاهري ، في حين أنها درجة شديدة من الطيران .
ي – أن إدراك المريض للبيئة من حيث معرفة الزمان والمكان والأشخاص – أحدها أو جميعها – قد يختل .
ز – أن بصيرته تضطرب ، بل إن كثيرا من هؤلاء المرضى يقول : حين سؤاله عما إذا كان مريضا من عدمه ، يقول أنه الآن ( بعد ظهور الأعراض ) قد شفي ، وأنه كان مريضا قبل ذلك ( يشير إلى أنه لما كان طبيعيا عاديا كان هذا من وجهة نظره الحالية هو المرض بذاته .
وفيما يلي حالة تدل على خصائص هذا النوع :
       طالب في كلية .... عمره ( 27 سنة ) ، لم يتزوج ، جاء قسرا مع أخيه ، وكان متخوفا جدا من المعالج ومن الفحص ، وكان يتلفت حوله في رعب ظاهر ...يقول أخوه ( جندي بالبوليس ) .... " .... امبارح كنا بنسمع الراديو ، فلقيناه ابدأ يضحك ... عرفنا أن الحالة رجعت ... وما نامش ، قلت له النهاردة ، يالله نروح المستشفى ، رفض ييجي ... فجبناه بالعافية .. الحالة دي حصلت له من سنتين ونصف ، قعد يغني أغاني عبد الحليم حافظ ، ويجري من هنا وهنا ، وأخذ كهرباء وخف . والمرة الثانية من قيمة سنة بعد ما دخل الجيش مجند حصلت له تاني ... وما أعرفش عملوا له إيه هناك ... " هو طالب ممتاز طول عمره الأول ، وبيدرس دراسات عليا ونشيط ولافيش بعد كده " ....
       ولما سئل المريض عن شكواه ، قال : " ... ولا حاجة ... مبسوط من الدنيا ، وعايش في الخيال ، والحالة حلوة قوي ، ومافيش أحسن من الصراحة ... ولازم أوصل وأبقى زي ما أنا عاوز . وأنت عاوز مني إيه . أنت مالك بيه ... " .
       ولما أعطي اختبار للذكاء مزق ورقة الإجابة ، ولكنه اعتذر فورا وقام مندفعا من حجرة الكشف . وبدراسة تاريخه لم تتبين أي سبب ظاهر مسئول عن حالة الهياج المتكررة ...
       وقد عولج بالصدمات الكهربائية والمهدئات وتحسن تماما في خلال أسبوع واحد من العلاج .
       وهكذا نرى كيف يفقد مريض الهوس الحاد بصيرته نهائيا ، وكيف يصاحب شعوره بالفرح خوف ورعب ، ثم كيف أن طيران الأفكار يكون أشد من الهوس الخفيف . ورغم شدة أعراضه إلا أنه يستجيب للعلاج المناسب بسرعة ونجاح (18)


3 – الهوس الهذياني Delirious Mania :
       وهو أشد أنواع الهوس ، وقد تتطور حالة المريض من الهوس الخفيف إلى الحاد إلى أن يصل الهذياني ، حيث تكون الخصائص في أشد صورها ، ولكن قد يبدأ المرض في صورة شديدة مباشرة ، فيحضر المريض أول ما يحضر في حالة هذيان تام دون سابق إنذار ن ويكون وعيه مختلطا من شدة فورة عواطفه ... ويتميز المريض في هذه الحالة بما يلي :
أ – يتهيج بشكل شديد ، فلا يستقر على حال وقد يحاول تحطيم الأشياء أو الإعتداء على غيره ، وقد يمزق ملابسه أو يتعرى تماما .
ب – لا يتعرف الزمان أو المكان أو الأشخاص بتاتا .
ج – يصاب بهلاوس سمعية وبصرية ... وقد يصاب بهلاوس أخرى متنوعة غير مستقرة .
د – تظهر الضلالات .. ، كما يزداد شك المريض فيمن حوله .
هـ - يتصرف المريض بغير تحرج ، فيأتي أعمالا منافية لكل الآداب ، ومنافية للمألوف ، يأتيها ببساطة وتبجح وإصرار .
و – يفقد المريض بصيرته نهائيا .
درجات الاكتئاب :
1 – الاكتئاب البسيط ( غير الذهاني )( Non Psychosis ) Simple Depression :
       يتميز هذا النوع من الاكتئاب بما يلي :
أ – نجد أن ثالوث الاكتئاب موجود ، ولكنه لا يصل إلى شدة ذهانية .
ب – لا يوجد سبب ظاهر لهذا الحزن والهمود ، كما لا يسبقه بوجه خاص قلق تكيفي .
ج – يتكلم المريض بصوت منخفض ، ولا يهتم بمن حوله ولا يتتبع الأمور بشغف واهتمام .
د – تقل شهية المريض للطعام ، ويقل نومه ، وعادة ما يستيقظ في ساعة مبكرة من الصباح في أسوأ حالاته .
هـ- يشكو المريض من العجز عن التركيز والاستيعاب ، وقد يلاحظ أن المريض يستطيع القراءة ولكنه يجد صعوبة في الكتابة .
ي – قد تصاحبه بعض أعراض جسمية مثل الصداع وعسر الهضم والإمساك والإنهاك .
وفيما يلي حالة تدل على خصائص هذا النوع :
       طالب ، بكلية الزراعة ، جاء يشكو من انصرافه عن العمل ، وانشغاله بأفكار سوداء وفقد الثقة .
       ومن نص شكواه " ... زي ما تقول مش قادر اتصرف في حاجة وما عنديش ثقة في نفسي ، فيه حاجات صغيرة مقدرش أعملها : كتابة جواب مثلا .... زي ما يكون فيه شلل في مخي ... دايما عندي إمساك باستمرار ، واضطراب هضمي ، ودلوقت أصبحت آكل بدون مزاج ما بحسش بطعم الأكل ".
       وبسؤال أخيه هن حالته قال : " ... هوه اتغير كثير ، مش ده أخويا اللي كان يجري ، ويصاحب ، ومايسبش حاجة إلا لما يعملها . دة بيقول إنه شاعر زي ما يكون ارتكب خطأ في حق زملائه ... إنما ده مش صحيح يا دكتور ، وهو من سنتين كانت جت له حالة أخف " .
       وبدراسة تاريخه المرضي ، وجد أنه انفصل عن والده منذ ستة عشر عاما ، وذلك للدراسة بين الكويت والقاهرة ، وأنه لا يزوره إلا كل عدة سنوات ، وأنه بذلك مفتقر إلى الجو الأسري ، منذ زمن بعيد ( إلا من شقيقه الذي يقيم معه ) من أجل الدراسة ، وكانت شخصيته قبل المرض من النوع الانبساطي ولم نجد سببا للمرض .
       وقد أعطي المريض عقاقير مضادة للاكتئاب ، ولم يستجب سريعا ، وإن توقفت الأعراض عن التطور ، ولما أعطي أربع صدمات كهربائية ثم استمر على العقاقير تحسن تماما ما وعاوده مرحه وانطلاقه وإقباله على الحياة ...(18)
2 – الاكتئاب الحاد Acute Depression  :
       يتميز هذا النوع من الاكتئاب بما يلي :
أ – يظهر " ثالوث " الاكتئاب بشكل واضح .
ب – يصبح المريض منعزلا ، لا يختلط بغيره .
ج – يكاد المريض ألا يتكلم إطلاقا ن فإذا تكلم فإن استجابته تكون متأخرة وبطيئة .
د – تزداد الشكاوي المرضية العضوية بشكل ملحوظ ، ويميل أغلبها إلى الهمود .
هـ- يصعب عليه معرفة الزمان والمكان والأشخاص لعدم اكتراثه بشيء وقصور انتباهه معا .
ي – قد يصاحب كل ذلك هلاوس وضلالات تدور حول الشعور بالذنب واتهام النفس .
ز – قد تكون له بداية حادة بلا مبرر ظاهر في العادة ، ويصاحبها شعور وخبرة بتغير الذات ، وتغير العالم من حوله ، ( وهي مشاعر وخبرات أكثر منها أفكار واعتقادات مثلما هو الحال في الوساوس والضلالات التي تحمل نفس الاسم ) .
ع – كثيرا ما يصاحب ذلك هلاوس وضلالات تدور حول الشعور الذنب واتهام النفس .
غ – قد تسيطر على المريض أفكار انتحارية وقد تصل إلى حيز التنفيذ .
ف – نرى من كل ما سبق أن الاكتئاب في هذا النوع وما يليه قد وصل إلى شدة ذهانية .
وفيما يلي حالة تدل على خصائص هذا النوع :
       موظف فني ، عمره ( 28 سنة ) ، لم يتزوج ( رغم أنه عقد قرانه ) ، جاء يشكو من ضيق شديد ، وخوف واضطراب وأعراض جسمية ، وكان من شكواه – بنص كلامه – " .... عندي خوف ، واستغراب ، حامل هم ، ازاي اليوم ده حينقضي ، وأخاف من بكره ، عندي عدم مبالاة تجاه الشغل ... فيه حاجة بتقاوم كل تصرف طبيعي عندي ... مش عايزاني أضحك ولا أعيش زي الناس ... ماعنديش نشاط ، حاسس إني خرقة بالية ، مااستلطفش أقعد مع حد .... " ، وكان يشكو كذلك من أعراض جسمية : " ألم في البطن ... وألم في الصدر ... ضيق تنفس ... توتر في الأعصاب – حاسس إنه فيه حاجة شداني ، ومن أعراض الضيق " ... عندي رغبة للصوات باكبتها ... باعيط باستمرار ، وأصحى بدري ، مش طايق نفسي .. وبافكر في الانتحار لأني حاسس إني مش حاخف .. أي مرض إما عندي وإما حيجيني ... "
       وبدراسة تاريخه الأسري ، وجد أنه ملئ بالحالات المشابهة والأشد حدة ، فكان ابن خالته في مستشفى الأمراض العقلية من عشر سنين ، كما أصيبت أخته وأخويه بحالات مماثلة . وإن كان الخوف يغلب عليها ، ولكنهم شفوا جميعا إلا أخته التي بقي عندها بعض أعراض أهمها فقدان الثقة في النفس ...
       وكان تاريخه المرضي السابق يشير إلى حالة مخاوف حادة      ( خوف من الموت ) ، أصابته بعد استئصال اللوزتين ، كما أصيب بحالة اكتئاب بسيط بعد دوسنطاريا حادة .
       أما شخصيته قبل المرض فكانت من النوع النوابي ، وإن غلب عليها الانبساط والانطلاق والحيوية .
       وقد ذهب إلى عديد من الأطباء ، وتناول كثير من العقاقير ، ولكن حالته لم تكن تسمح له بالاستمرار في أيها . ولم يكن يصاحبه أحد عند المعالج ليساعده في تحمل المسئولية ، وأخذ العلاج بانتظام ، وذلك لأنه كان يخجل من حالته .
       وقد عولج بأربع صدمات كهربائية تحت تخدير عام ( وذلك للتغلب على خوفه ) ، وتحسن جدا ، فانقطع عن العلاج ، فعاودته الحالة بعد أسبوعين ، فجاء بعدها يطلب بشدة أن يكمل العلاج ، فأخذ أربع صدمات أخرى ، وشفي تماما لمدة عام ونصف حتى المتابعة الأخيرة .
       وهكذا نرى أعراض الاكتئاب الحاد ، وقد اختلطت ببعض المخاوف – بل والوساوس - ، وكذا اصطحبتها الأعراض الجسمية المرضية الشديدة . وكيف أن كل هذه الأعراض زالت تماما بزوال الاكتئاب ، فهو يقول بعد العلاج : " ... مش معقول !!  مش حاسس بأي حاجة من بتاع زمان .... أنا حاسس إني اتولدت من جديد " (18).
3 – الاكتئاب الذهولي Depressive Stupor :
       وهذا هو أقصى طور الاكتئاب ، وإذا وصل إليه المريض ، فإنه قد يصعب تشخيص الاكتئاب ذاته إلا بالتاريخ الطولي ، وسابق أحواله ، ثم بتتبعه أثناء شفائه وحكايته عن هذه الخبرة الآسية ، وقد نقص تواتر هذا النوع بعد التدخل السريع والمباشر لعلاج حالات الاكتئاب قبل أن تصل إلى هذه الدرجة ... 
       ويتميز هذا النوع من الاكتئاب بما يلي :
أ – يبلغ الهمود في التفكير والحركة والكلام درجة تصل بالمريض إلى حد البكم ، حتى لا يستطيع أن يتكلم أبدا ، ولا يقوم بأي نشاط ، ولا يتعاون مع أحد ، بل إنه قد لا يتبول ولا يتبرز ، أو حتى يبصق ، أو يبلع لعابه ، فيملأ اللعاب فمه ، كما تصاب العضلات بالارتخاء .
ب – يبدو المريض للناظر وكأنه لا يحس بأي عاطفة أو شعور ، في حين أنه يكون في أشد حالات القنوط والكدر ، وقد يحكي بعد شفائه عن مشاعره تلك ، وكيف كان حزينا حزنا أسودا ، لا يستطيع حتى التعبير عنه . وقد يحكي المريض أحيانا كيف اعتقد وهو في تلك الحالة أنه مات ( ضلال انعدامي ) .
ج – يضطرب الوعي بشكل واضح . فلا يتعرف المريض على البيئة إطلاقا ، وقد يبدو وكأنه في غيبوبة .
د – تتأثر حالة المريض البدنية ، فنراه ضعيفا هزيلا ، قد تغطى لسانه بطبقة قذرة ، وأزرقت أطرافه ، وأصبح لون جلده ترابيا ، لا تبدو فيه حياة .
هـ - قد تطرأ عليه أفكار انتحارية ، إلا أنه يعجز عن تنفيذها ، ذلك لأن بطئه الحركي يحول دون ذلك ، لذلك يخشى عليه من تنفيذها أثناء تقدمه نحو الشفاء ، لأنه قد يتحسن حركيا قبل أن يتحسن انفعاليا ، مما يسمح بتنفيذ افكاره التحطيمية بشكل يقضي على حياته فعلا .
وفيما يلي حالة تدل على خصائص هذا النوع :
       أخصائي اجتماعي في أحد المصانع ، عمره ( 38 سنة ) ، أحضره أهله محمولا في حالة رثة ، وقد أطلق لحيته ، وسال لعابه ، وحكى أحدهم أنه أخذ ينزوي ويبكي منذ أربعة أيام ، على أثر ترك زوجته للمنزل ، ثم لم يعد يكلم أحدا ، ولا يأكل ولا يشرب ولا يحلق شعره أو ذقنه .... إلخ . وبمحاولة سؤاله عن شكواه طأطأ رأسه ولم يرد إطلاقا ... ثم انهارت الدموع من عينيه دون كلمة وكان أقاربه يشكون من أن مركزه كأخصائي اجتماعي معرض للخطر لذلك ، ورفضوا رفضا باتا ، أي محاولة لإدخاله المستشفى ، وتعهدوا برعايته حرصا على مستقبله .
       وبتقصي تاريخه المرضي ، وجد أنه كافح طويلا – ماديا وأدبيا – حتى وصل حديثا إلى هذا المركز الذي يشغله بعد أن كان موظفا كتابيا ، وأنه تزوج من شهور قلائل ، ثم حدث خلاف زوجي حاد ، انتهى بأن تركت زوجته المنزل ، فكان هذا هو السبب المرسب الذي بدأت بعده الحالة . ولما رفض أهله إدخاله المستشفى بدأ علاجه بالصدمات الكهربائية ، فتحسنت حالته بعد مرتين ، وجاء حليقا وقد غير ملابسه ، وأخذ يشكو " .... متضايق جدا يا دكتور ، وما كنتش داري بنفسي ... كنت حاسس إني زي الميت ، وياريتني عملتها ... " ، وقد حاولنا إقناعه بدخول المستشفى ثانية ، فرفض أهله كذلك ... والظاهر أنهم اطمأنوا إلى تحسنه الظاهري ، فخدعوا فيه ، رغم التأكيدات باستمرار ملاحظته ... " ، وكان أن أنهى حياته بعد ذلك بأيام قلائل بالانتحار (18)
أسباب ذهان الهوس والاكتئاب :
1 – الأسباب الوراثية :
تلعب دورا مهيئا للانهيار في اتجاه ذهان الهوس والاكتئاب       ( تاريخ إيجابي في أكثر من  70 % من الحالات ) (4). ويؤكد العلماء دور الوراثة في هذا المرض ... وقد وجد أنه إذا أصيب أحد التوائم المشابهة لهذا المرض ، فيصاب التوأم الآخر في حوالي ( 33 % ) ، وكذلك تتفاوت النسبة ، بين أبناء المصابين ، بهذا المرض بين ( 10 – 13 % ) ... ويقال أن طريقة انتقال المرض تنتشر على هيئة مورثات سائدة .. ويكثر هذا المرض بين الشخصيات ذوي المزاج الدوري ، أي الذين يتفاوتون في مزاجهم بين المرح والاكتئاب مباشرة ... (3) .
2 – الأسباب البيئية أو التركيب الجسمي :
فيبدو أن النمط المكتنز أو البدين أكثر عرضه من غيرهم لردود الأفعال العاطفية . ويربط البعض بين ذهان الهوس والاكتئاب وبين اضطرابات الغدد ( وخاصة الكظرية والجنسية ) . ويربط البعض كذلك بين ذهان الهوس والاكتئاب وبين اضطرابات الجهاز العصبي ( مثل زهري الجهاز العصبي وأورام الفص الجبهي ) . ويرى البعض أن هناك علاقة بين ذهان الهوس والاكتئاب وبين اضطراب نسبة المعادن في الجسم .
3 – الأسباب النفسية :
اضطراب العلاقات بين الطفل والوالدين ، واضطراب العلاقات الاجتماعية بصفة عامة . والضغوط البيئية والانفعالية والعوامل الضاغطة في الحياة بصفة عامة ، وصعوبة التوافق معها . والاضطراب الانفعالي للوالدين أثناء طفولة المريض . وفقدان موضوع الحب وفشل العلاقات الشخصية الهامة بين الأزواج . وحدوث اضطرابات انفعالية كثيرة في تاريخ المريض . والسلطة والمعايير الجامدة والعقاب الصارم . ونقص المكانة الاجتماعية (7).
       وتؤمن نظرية التحليل النفسي أن من أهم أسباب هذا المرض هو فقدان موضوع الحب مع النكوص للمرحلة الفمية .
4 – الغدد الصماء :
       قد تلعب دورا هاما إذ قد يظهر المرض عند التحولات البيولوجية ( سن اليأس ) . (18) . وقد أجريت حديثا الكثير من الأبحاث عن علاقة هذا المرض بنسبة المعادن في الجسم . وعمليات التمثيل الغذائي المختلفة ... فقد وجد مثلا أن جسم الفرد المكتئب يحتفظ بكمية من الصوديوم داخل الخلايا يزيد ( 50 % ) على المستوى العادي ... أما الشخص المصاب بنوبة الإنبساط فتزيد هذه النسبة إلى ( 200 % ) ، وبشفاء هؤلاء المرضى تعود هذه النسبة إلى طبيعتها ... ولإثبات هذه التجربة أعطي بعض مرضى الذهان الدوري كمية من هرمون النخامية ، والذي من طبيعته الاحتفاظ بالماء والصوديوم في الجسم ، فلوحظ أن حالة المرضى ساءت وتدهورت سواء في نوبات الاكتئاب أو الانبساط ، وهذا الاضطراب هو أساس العلاج الوقائي الحديث بالليثيم (3 ) .
       ومما يؤيد نظريات الهرمونات العصبية في نشأة مرض الاكتئاب الانبساطي وجود هذه الهرمونات بنسبة أعلى من أي جزء آخر في الدماغ في المناطق الخاصة بالإنفعال وخاصة الهيبوثلاموس والجهاز الطرفي في السطح الأنسي للمخ ... كذلك وجد أن نسبة هذه الهرمونات في المرضى المنتحرين من مرضى الاكتئاب تقل في هذه المراكز الدماغية بشكل واضح ، وذلك بعد تحليلات دقيقة في المخ بعد وفاتهم ... كذلك بتشريح ودراسة كيمائية مخ بعض مرضى الاكتئاب الذين لاقوا حتفهم لأسباب عديدة أثناء علاجهم بالعقاقير المضادة للاكتئاب ، وجد أن نسبة هذه الهرمونات العصبية تزيد تدريجيا خلال العلاج ، وتصل إلى أقصاها في خلال ثلاثة أو أربعة أسابيع ، مما يؤيد العلاقة الوثيقة بين مرضى الاكتئاب ونسبة هذه الهرمونات العصبية في المخ ، وتأثير العقاقير المضادة للاكتئاب على هذه الهرمونات ووصول أقصى فاعليتها بعد ثلاثة أو أربعة أسابيع (3) .
أعراض ذهان الهوس والاكتئاب :
1 – هناك دوران متميزان في ذهان الهوس والاكتئاب هما : دور الهوس ودور الاكتئاب . ويأتي المرض في أدوار قد يتخللها فترات من السواء النسبي أو الصحة النفسية ( أنظر الشكلين التاليين ) .
ويختلف وقت دوام كل دور ، فقد يقتصر على بضعة أيام ، وقد يستغرق عاما كاملا . وعلى العموم فدور الهوس غير المعالج ، لا يدوم أكثر من ( 6 أشهر عادة ) ، ودور الاكتئاب لا يدوم أكثر من ( 9 أشهر ) . ويلاحظ أن أدوار الهوس اقل كثيرا من أدوار الاكتئاب .
2 – والاضطراب الأساسي يصيب الانفعال والتفكير والنشاط الحركي ، فيسرع في دور الهوس ، فنشاهد المرح وطيران الأفكار ، وزيادة النشاط الحركي ، ويبطيء في دور الاكتئاب ، فنلاحظ الحزن وبطء التفكير ، ونقص النشاط الحركي ، ومن ثم يطلق البعض على أهم أعراض ذهان الهوس والاكتئاب" ثالوث الهوس أو ثالوث الاكتئاب " (7) .
ثالوث الهوس :
أ – مزاج ومرح ، وقد يتبادل مع الغضب أو الخوف .
ب – زيادة في النشاط الحركي .
ج _ طيران الأفكار .
ثالوث الاكتئاب :
أ – مزاج مكتئب ، وقد يتبادل مع القلق أو الخوف .
ب – بطء في الحركة .
ج – صعوبة وبطء في التفكير (18)
3 – وقد يبدأ المرض بحالة هوس بأعراضها المختلفة ، ثم يبدأ في حالة تحسن ، ثم يدخل في دور الاكتئاب ثم يبدأ في حالة تحسن ليعود بعدها إلى دور نسبي كما ذكرنا . وقد يظل المريض في دور الهوس أو في دور الاكتئاب أو يزاوج بينهما بصورة دورية منتظمة فينتقل من دور الهوس إلى دور الاكتئاب ثم يعود إلى دور الهوس بدون فترات سواء نسبي . وقد تكون الدورات غير منتظمة فتتوالى دورتان أو ثلاث من الاكتئاب ثم تتبعها دورتان من الهوس ..
4 – ويتصف ذهان الهوس والاكتئاب بالإفراط في ردود الفعل الانفعالية مختلطة ببعض أعراض دور الهوس . فمثلا نجد ما يسمى " الاكتئاب الباسم " ، و " الذهول الهوسي " .
       وبالرغم من حدة الأعراض فإن التدهور العقلي والانفعالي لا يحدث ، ويظل المريض متصلا بالواقع .

تشخيص ذهان الهوس والاكتئاب :
من الملاحظات المساعدة في التشخيص ما يلي :
1 – بداية المرض عادة فجائيا وقليلا ما نجده يحدث متدرجا ، وتنتهي الدورة في حدود ( 6 أشهر ) ، إما تلقائيا أو نتيجة العلاج ، والعودة للمرض مرة أخرى متوقعة ، ولا يحدث تدهور عقلي أو انفعالي عند المريض .
2 – ويجب التفريق بين ذهان الهوس والاكتئاب وبين أعراض المرح أو الاكتئاب التي تصاحب بعض أشكال الذهان العضوي . ففي ذهان الهوس والاكتئاب لا تتأثر الذاكرة والذكاء والوعي بينما تتأثر وتتدهور في الذهان العضوي .
3 – ويجب التفريق بين ذهان الهوس والاكتئاب وبين الفصام . ففي ذهان الهوس والاكتئاب يكون اضطراب الشخصية مسألة " كم " أي يكون مسألة " أكثر " أو " أقل " من الحالة السوية ، ويكون هناك انسجام بين المزاج ومحتوى التفكير والسلوك ، ويكون اضطراب التفكير وعدم الترابط أقل وضوحا ، بينما يكون في الفصام مسألة تفكك الشخصية ، ويبدو ذلك واضحا في السلوك ، ويكون التفكير واضح الاضطراب وغير مترابط وتحدده الهلوسات والهذيانات والأفكار الشديدة الغرابة .
علاج ذهان الهوس والاكتئاب : يتوقف العلاج على نوع المرض ودرجته ، والعلاج ضروري في المستشفى ، وخاصة في الحالات الحادة ، وفي حالة الخوف على حياة المريض أو الآخرين . وفيما يلي أهم معالم علاج ذهان الهوس والاكتئاب :
1 – العلاج الطبي :
ويعتمد على الدور الذي يعالج المريض أثناءه ، وباستخدام ثيوريدازين .
ففي دور الهوس يجب السيطرة على النشاط النفسي الحركي الزائد وعلى السلوك ، وباستخدام كلوربرومازين ، والعلاج بالرجفة الكهربائية والعلاج المائي كمسكن .
وفي دور الاكتئاب يجب السيطرة على الاكتئاب ورفع الحالة المزاجية باستخدام توفرانيل واميبرامين والعلاج بالرجفة الكهربائية ، وعلاج الأعراض المصاحبة ، مثل فقد الشهية والأرق والقلق ، وحماية المريض من الإنهاك الشديد أو الموت جوعا ، والرعاية الخاصة للمرضى الذين يؤذون أنفسهم أو يحاولون الانتحار .(7)
2 – العلاج بالصدمات الكهربائية :
       وهي من أنجح العلاجات حتى الآن في حالات الاكتئاب خاصة . وهي تستعمل الآن بطريقة سليمة على ناحية من المخ فلا تحدث نسيانا ... وهي نافعة في كل حالات الاكتئاب الدوري تقريبا ، حتى البسيط منها إذا عجزت العقاقير ، ولكنها لا تصلح في حالات الاكتئاب العصابي والاكتئاب المزمن المتراكم القلق .. كما أن توقيتها مهم للغاية ، فهي تصلح في أول ظهور المرض وقرب نهايته بدرجة أكبر منها في " قمة حدة المرض " .
       هذا وقد تصلح الصدمات قرب نهاية دور الهوس بعد ضبطه بالعقاقير ، وقبل دخوله مرحلة الاكتئاب قبل الشفاء (18).
3 – علاج الأنسولين المعدل :
قد يصلح في حالات الاكتئاب البسيط ، وخاصة إذا صاحب هذا أو ذاك الهزال وفقد الشهية  .
4 – العلاج النفسي :
( بعد الإجراءات الطبية التي تجعل المريض أكثر استعدادا للعلاج النفسي ) ويهدف العلاج النفسي في هذه الحالة إلى المساندة والدعم والحماية أثناء الدور ، وفهم وحل مشكلات المريض وصراعاته وإحباطاته وإعطاء الأمل في الشفاء (25) . وقد يصلح العلاج النفسي التدعيمي والتفريغي في حالات الاكتئاب البسيط  وقد يغير العلاج النفسي المكثف والعلاج الجمعي بين النوبات ، لإحداث تغيير جذري في الشخصية ، يسمح بالتعبير عن هذه الطاقة الداخلية بطريقة منتظمة ومستمرة وبناءه ، بدلا من ظهورها في نوبات مرضية (18) .
5 – العلاج الاجتماعي والعلاج البيئي :
لتخفيف الضغوط البيئية ولتدعيم توافق المريض اجتماعيا على المدى الطويل . والعلاج بالعمل لإثارة اهتمام المريض وانتزاعه من أفكاره السوداء ومن التمركز حول ذاته في دور الاكتئاب ، ولتنظيم وضبط وتصرف نشاط وطاقة المريض في دور الهوس (7) . حتى يتم تعليمه لنوع أفضل من التفاعل يجابه به مشاكل حياته (18) .
 7– العلاج الوقائي ضد النكسة :
( لأن ذهان الهوس والاكتئاب يميل إلى المعاودة ) ، ولذلك يجب إبقاء المريض تحت الملاحظة الدقيقة لمدة طويلة ، وتحت العلاج والتوجيه وتعليمه كيف يعبر عن انفعالاته وكيف يتجنب أخرى . وإذا حدثت النكسة فإنها تحدث بعد فترة تتراوح بين بضعة شهور إلى بضع سنوات .
8 – هذا ويجب دائما الاحتراس من خطر انتحار المريض أو قتل الغير
مآل ذهان الهوس والاكتئاب :

       مآل ذهان الهوس والاكتئاب حسن عموما . ويعتبر المآل حسنا : كلما كان المريض متوافقا في الفترة قبل الذهان ، وكلما كان البدء مفاجئا وحادا ، وكلما كانت هناك عوامل مرسبة خارجية واضحة ، وكلما قل تكرار النوبات ، وكلما بدأ العلاج مبكرا .
xx
[تصفح أقسام المكتبة المجانية][grids]