الوقاية من الأمراض النفسية والعقلية

من الأسئلة الهامة التي تطرح أحيانا عندما يجري الحديث عن الأمراض النفسية ، هو إمكانية منع حدوث هذه الأمراض ، والوقاية منها
من الواضح أن هناك عدة عقبات في طريق الوقاية الفعالة من هذه الأمراض النفسية ( 23 ):
أولها : أنه مازال أمامنا الكثير من العوامل التي مازلنا نجهلها ، أو نجهل أثرها في إحداث هذه الأمراض ، ولذلك فإننا لا نستطيع إعطاء الرأي الجازم فيما يتعلق بالوقاية منها .
وثانيا : مازال غير واضح تماما كيفية تداخل العوامل المسببة مؤثرة ببعضها البعض . ولاشك أن معرفة هذا الأمر يعتبر حلقة هامة من أجل وقاية فعالة .
وثالثا : أن القليل فقط من هذه العوامل يمكن في الواقع التدخل لتغييرها وتغيير أثرها على كل الأحوال ، بينما معظم هذه العوامل بعيدة عن إمكانية تدخلنا . فمثلا يمكننا التدخل في تعديل بعض أحداث الحياة والعزلة الاجتماعية ، وكذلك في بعض ممارسات تربية الأطفال وتنشئتهم ، بينما يصعب علينا تغيير شخصية الإنسان ، أو منع بعض الحوادث المعاشية . وكذلك فإن الاستشارة الوراثية بالنسبة للمصاب بالمرض النفسي ، فيما يتعلق بقضايا الزواج والإنجاب ، مازالت محدودة التأثير جدا ، إلا فيما يتعلق بداء رقص هنتغتون .
       ومما هو معروف حتى الآن حول طبيعة الأمراض النفسية ، والعوامل المحدثة لها ، يمكننا الإشارة إلى العوامل التالية ، والتي يمكن أن تخفف من احتمالات الإصابة بهذه الأمراض ، ولكن دون أن يكون الأمر مضمون النتيجة :
- من الحكمة أن لا يعرض الإنسان نفسه لمجموعة من المتغيرات الكبيرة في حياته في وقت واحد . وبعض الأحداث يمكن توقعها مسبقا مثل الزواج ، وتغيير العمل أو المهنة ، ومن المفيد أن يفصل الإنسان بين هذه الحوادث ببعض الوقت .
- بما أن للدعم الاجتماعي والأسري دور وقائي من الأمراض النفسية ، أو على الأقل له أثر في تقصير مدة المرض وشدته ، فإنه يقترح عندما ينتقل الإنسان أو يهاجر إلى مكان جديد ، أن يحاول إقامة العلاقات الاجتماعية مع الناس من حوله ، وخاصة الذين يشاركونه قيمه ، ومفاهيمه ونظرته إلى الحياة بشكل عام .
- يتوفر للذين ينتمون إلى شبكة جيدة من العلاقات الاجتماعية من الأقارب والأصدقاء من يلجؤن إليه إذا صادفتهم مشكلات أو صعوبات ، والحديث مع شخص آخر عن هذه المشكلات ، وخاصة شخص يجيد الاستماع والفهم يخفف كثيرا ، بل يكاد يذهب بالأثر العاطفي السلبي لهذه المشكلات ، والقلق المتعلق بها . " والمستمع الجيد " لا يشترط بالضرورة أن يكون قريب أو صديق ، بل يمكن أن يكون اختصاصيا أو معالجا نفسيا .
- لاشك أن كل إنسان يجب أن ينشأ أولاده بطريقة تمنعهم ضد الأمراض النفسية ، ولكن مع الأسف ، مازالت هذه الطريقة التربوية غير واضحة لنا تماما ، إلا أنه من المفروغ منه أن نذكر أن جوا أسريا من المحبة والدفيء ، يعتبر أمرا ضروريا وجوهريا للصحة النفسية ، ليس فقط عند الأبناء ، وإنما الآباء والأمهات أيضا . ففي هذا الجو الأسري ، يتاح للإنسان التعبير عن مشاعره ، وما يعتلج في صدره بحرية وأمان ، ويشجع على الاعتماد على نفسه وبناء ثقته بذاته .
- هناك كثير من الأبحاث التي حاولت النظر إلى طرائق التكيف مع أزمات الحياة . ويبدو أنه يفضل أن يكون لدى الإنسان طرق متعددة للتعامل مع هذه الأزمات ، بحسب طبيعة الأزمة ، وظروفه الخاصة ، بدل أن تكون لديه طريقة واحدة فقط غير مرنة ، يتعامل خلالها مع كل الأزمات والمشكلات .
- ومن المفيد أيضا أن لا يتحلى الإنسان بنظرة سلبية متشائمة ، بل عليه أن يشعر بأنه كائن له قيمته في الحياة ، وأنه مسيطر على حياته ، لا أنه ضحية لنتائج أعمال الآخرين ، أو ضحية " القدرة " المكتوب . نعم ، قد يصعب أحيانا تغيير بعض أحداث الحياة ، ولكن بوسعنا أن نغير نظرتنا ومواقفنا من هذه الأحداث ، وكذلك نظرتنا من أنفسنا وإمكاناتنا .
- هناك بعض المشكلات العاطفية والنفسية والتي تشفى تلقائيا بنفسها من خلال الوقت ، ومن دون معالجة فاعلة ، ودون أن تترك أي أثر على حياة الإنسان النفسية ، وإن كان هذا الأمر قد يستغرق عدة أشهر ، ولكن هناك مشكلات قد تمتد وتزمن وتشتد ، إن لم يتلق المصاب الرعاية الكافية المناسبة . فمثلا ، إن أحدثت الصعوبات الزوجية اضطرابا عاطفيا عند الأولاد ، فإن المساعدة والرعاية والمعالجة المبكرة قد تحول دون تعقد مشكلات الأولاد ، وبالتالي فلا تصل الأمور لحد الأمراض النفسية الشديدة . ولذلك فتلقي الرعاية المبكرة ، وخاصة وقت الأزمات والكوارث ، أمر جد مفيد لإحداث تكيف مناسب صحي مع هذه الأحداث

- والنقطة الأخيرة والأكثر أهمية في قضية تخفيف المعانات والألم من الأمراض النفسية ، أنه مهما كانت طبيعة هذا " المرض " ، سواء كان اضطرابا عاطفيا عقب وفاة صديق ، أو كان بداية لمرض الفصام ، فإنه من المهم جدا أن يحاول الإنسان طلب المساعدة والرعاية ، في أقرب وقت ، طالما أنه مدرك وشاعر بالذي يحدث ، فعلاج المرض النفسي في المراحل الأولى أسهل بكثير من معالجته في المراحل المتقدمة . إن هذه المعالجة المبكرة ، تخفف الكثير من آثار هذا المرض ، وما يحدثه من صدمة على حياة المصاب ، وعلى أسرته ومعارفه  ( 23 ) .  
xx
[تصفح أقسام المكتبة المجانية][grids]