أسباب الأمراض النفسية والعقلية

من المعروف أن لكل شيء سببا ، وأنه لا شيء يأتي من لا شيء ( Nothing comes from nothing )
ومن المبادئ الرئيسية في أسباب الأمراض النفسية والعقلية مبدأ تفاعل الأسباب . فمن النادر أن نضع أيدينا على سبب واحد ، كالوراثة أو صدمة ونقول أنه السبب الوحيد لمرض نفسي بعينة أو مرض عقلي بعينه ، بل تتعدد الأسباب إلى الحد الذي قد يصعب فيه الفصل بينها أو تحديد مدى أثر كل منها . فالحياة النفسية ليست من البساطة بحيث يكون اضطرابها رهنا بسبب واحد .
وتتلخص أسباب الأمراض النفسية والعقلية في نتيجة تفاعل قوى كثيرة ومتعددة ومعقدة ، داخلية في الإنسان ( جسمية ونفسية ) ، وخارجية في البيئة ( مادية واجتماعية ) (7).
لعل السؤال الأول الذي يخطر في ذهن الإنسان الذي يصاب بمرض نفسي ، هو لماذا حدث هذا المرض ؟ أي لماذا هذا المرض بالذات ؟ وفي هذا الوقت بالذات ؟ ولهذا الإنسان بعينه ؟
والإجابة عن هذا السؤال ستكون في الحقيقة لا نعرف بدقة كل الأسباب المحدثة للمرض النفسي ، ولنفس السبب هذا ، فإننا لا نستطيع عادة التوقع الأكيد في احتمال إصابة إنسان بمرض نفسي .
إن الشيء المتفق عليه أن هناك عدة عوامل تتدخل عادة في إحداث المرض النفسي ، وأن كل واحد من هذه العوامل بمفرده لا يسبب المرض هذا ، ولكن تضافر هذه العوامل مجتمعة هو الذي يحدث خلل التوازن ، ويسبب المرض النفسي . ويعتقد أيضا أن نفس الاضطراب النفسي أو السلوكي قد يحدث وبسبب عوامل أخرى متنوعة من شخص لآخر . ( 23 )
وتنقسم أسباب الأمراض النفسية والعقلية إلى :
الأسباب المهيئة ( الأصلية ) :
وهي التي تمهد لحدوث المرض ، وتجعل الفرد عرضه لظهور المرض النفسي أو العقلي إذا ما طرأ سبب مهيء . ومن أمثلة الأسباب المهيئة : العيوب الوراثية والاضطرابات الجسمية والخبرات الأليمة خاصة في مرحلة الطفولة وانهيار الوضع الاجتماعي .
الأسباب المرسبة ( المساعدة ) :
       وهي الأسباب والأحداث الأخيرة السابقة للمرض النفسي أو العقلي مباشرة والتي تعجل بظهوره . ويلزم لها لكي تؤثر في الفرد أن يكون مهيأ للمرض النفسي أو العقلي . والأسباب المرسبة تندلع في أثرها أعراض المرض ( أي تفجر المرض ) . ومن أمثلتها : الأزمات والصدمات مثل الأزمات الاقتصادية والصدمات الانفعالية والمراحل الحرجة في حياة الفرد مثل سن البلوغ وسن القعود وسن الشيخوخة أو عند الزواج أو الإنجاب أو الانتقال من بيئة إلى أخرى أو من نمط حياة إلى نمط حياة آخر .(7) وكذلك وجوج البطالة والفقر والسكن غير الملائم وسوء التغذية كلها تؤثر على الصحة النفسية للفرد .. وتحت تأثير هذه الأحداث تتجه بعض العائلات الضعيفة إلى التفكك ، ويتعرض أبنائها إلى بعض الأمراض النفسية والعقلية (21)
الأسباب الحيوية ( البيولوجية ) :
       وهي في جملتها الأسباب الجسمية المنشأ أو العضوية التي تطرأ في تاريخ نمو الفرد . ومن أمثلتها : الاضطرابات الفسيولوجية وعيوب الوراثة ونمط البيئة أو التكوين وعوامل النقص العضوي .... إلخ .
الأسباب النفسية :
       وهي أسباب تشمل الأحداث التي يتعرض لها الفرد في ظروف تمس الجوانب الشخصية ، وكيفية مواجهتها وكيفية الاستجابة لها .
وهي أسباب ذات أصل ومنشأ نفسي ، وتتعلق بالنمو النفسي المضطرب ، خاصة في الطفولة وعدم إشباع الحاجات الضرورية للفرد  واضطراب العلاقات الشخصية والاجتماعية . ومن أهم أمثلتها : الصراع والإحباط والحرمان والعدوان وحيل الدفاع ، والخبرات السيئة والصادمة وعدم النضج النفسي والعادات غير الصحية والإصابة السابقة بالمرض النفسي ... إلخ .
الصراع Conflict :
       هو نزاع متزامن للدوافع أو الرغبات المتعارضة . وينتج عن وجود حاجتين لا يمكن إشباعهما في وقت واحد ، ويؤدي إلى التوتر الانفعالي والقلق واضطراب الشخصية .
       ويحدث شعوريا سهل اكتشافه ، أو لاشعوريا دون وعي الفرد ودون إرادته ، وذلك يصعب اكتشافه . ولابد من حل الصراع . ولكن يحل الفرد الصراع قد تلجأ الشخصية إلى حيل الدفاع النفسي . وإذا أخفق الحل وزاد الصراع فقد يرتكز على أتفه الأسباب ليظهر العرض المرضي .
الإحباط Frustration :
عملية تتضمن إدراك الفرد لعائق يحول دون إشباع حاجاته ، أو تحقيق أهدافه ، أو توقع وجود هذا العائق مستقبلا .
فالإحباط المستمر يؤدي إلى شعور الشخص بخيبة الأمل فيما يريد تحقيقه من أهداف ، وذلك لوجود عائق أو ظروف قاهرة أكبر من إرادته وإمكانياته ، ويقهر محاولاته للتغلب على العائق سعيا للوصول إلى أهدافه ويؤدي إلى تحقير الذات والقلق .
الحرمان :
       هو انعدام الفرصة لتحقيق الدافع أو انتفاؤها بعد وجودها . ومن أمثلته " الحرمان الحيوي ( البيولوجي ) ، والحرمان النفسي المبكر ، والحرمان البيئي العام ، وعدم إشباع الحاجات الأساسية مثل الحاجات الحشوية ، والحسية ، والانفعالية ، والنفسية ، والاجتماعية ، والجنسية ، والحرمان من دافع الوالدية ، والحرمان من حب وعطف وحنان ورعاية الوالدين ... إلخ .
إخفاق حيل الدفاع النفسي :
       في حالة إخفاق حيل الدفاع النفسي التي هي وسائل لاشعورية هدفها تجنب الفرد حالة التوتر والقلق ليحتفظ بثقته واحترام ذاته ، وفي حالة اللجوء إلى حيل الدفاع غير السوية العنيفة مثل النكوص والعدوان والإسقاط والتحويل ، فإن سلوكه يظهر مرضيا.
الخبرات الصادمة :
       مواقف تحرك العوامل الساكنة وتستفز ما لدى الفرد من عقد وانفعالات ودوافع مكبوتة ، ويقال أن كل مرض نفسي هو مأساة كتبت فكرتها في الطفولة بيد الوالدين ، ثم يقوم الفرد الضحية بتمثيلها في عهد الكبر .
       وكلما كانت الخبرة الصادمة عنيفة كان تأثيرها في إحداث المرض شديد ، ولكن تأثيرها يتوقف على معناها بالنسبة للفرد وتفسيره لها على أساس مستوى نضجه وعلى أساس مشاعره الداخلية وعلى أساس الطريقة التي يعالج بها الأشخاص المحيطون به هذه الخبرة . وكذلك صدمة واحدة قد لا تؤثر في بناء الشخصية ، ولكن تكرار الصدمات يصدعه .
العادات غير الصحية :
       تلعب دور هام في إنتاج الشخصية غير السوية والمرض النفسي أو العقلي . ومن أمثلتها : العادات الجسمية غير الصحية ( كما في المشي والكلام ) ، وسوء العادات الاجتماعية ( مثل عدم الضمير وعدم تحمل المسئولية الاجتماعية ) ، وسوء العادات العقلية المعرفية ( مثل نقص المعرفة بالمبادئ العلمية الأولية ) ، وسوء العادات الانفعالية ( مثل الحزن على ما فات والخوف من المستقبل ) ، وسوء العادات الدينية والأخلاقية ... إلخ
الإصابة السابقة بالمرض النفسي :
تترك المريض بعد شفائه منها عرضه للنكسة أو الإصابة مرة أخرى ، إلا إذا عولج علاجا طويلا هادفا وقائيا شاملا .  
الأسباب البيئية الخارجية :
       وهي الأسباب التي تحيط بالفرد في البيئة أو المجال الاجتماعي . ومن أمثلتها اضطراب العوامل الحضارية والثقافية واضطراب التنشئة الاجتماعية في الأسرة وفي المدرسة وفي المجتمع ... إلخ . (7 )
ومن أهم الأسباب التي لها صلة وثيقة بالأمراض النفسية بشكل منفرد ، وإن كان الأمر كما ذكرنا أنها عادة غير منفصلة عن بعضها ، وقد تفعل فعلها بتداخلها مع بعضها البعض هي :
1 – مرحلة الطفولة :
إن للسنوات الأولى في حياة الإنسان أثر كبير في مستقبل حياته ، وخاصة التجارب والعوامل السلبية التي يمر بها . ومن هذه الظروف السلبية والتي قد تضر في نمو الإنسان طبيعة الحياة الأسرية المضطربة  وخاصة التي تنعدم فيها العاطفة والحنان ، أو التي تكبت الطفل فلا تتيح له مجالا للتعبير عن مشاعره ، أو عدم رضاه عن أمر من الأمور . فالبيئة الفقيرة سواء ماديا أو معنويا أو عاطفيا قد تؤثر في نمو بعض الأطفال ، بينما قد يوجد عند البعض الآخر عوامل ثانية معاوضة عن هذا الفقر بحيث لا تظهر عندهم في النهاية النتائج السلبية لهذا العوز في نموهم الاجتماعي والعاطفي .
ولم تقدم الدراسات في هذا الجانب حتى الآن دلائل على أن جوانب معينة في حياة الطفل تسبب مباشرة مرضا نفسيا محددا ، وإن كان هناك تخمينات كثيرة متعددة . وهذا هو أحد أسباب شعور الوالدين عادة بالذنب الشديد ، والذي قد لا مبرر له ، عندما يصاب أحد أولادها بمرض نفسي كالفصام مثلا . وهناك بعض الدلائل وإن كانت غير قطعية  بان وفاة والدة الطفل في هذه المرحلة المبكرة من حياته قد يكون لها أثر قي زيادة احتمال تعرض هذا الطفل للإصابة بالاكتئاب في قابل أيامه ومن الأمور التي تتعدد فيها الآراء بين الاختصاصيين هي لأي حد تعتبر تنشئة الطفل مسئولة عن إحداث الأمراض النفسية في المراحل المتقدمة من العمر . ومع ذلك يمكن أن نقول وبشيء من الثقة ، أن التطور العاطفي للطفل ، والأسلوب الذي تعلمه من ردود أفعاله تجاه ظروف الحياة لهما أثر كبير في صياغة طبيعة الاستجابة لديه تجاه الأزمات الشديدة في مستقبل حياته .  
2- الشخصية :
إن التجارب المزاجية والعاطفية أثناء طفولة الإنسان لتؤثر كثيرا في صياغة شخصيته . وهذه الشخصية قد تؤثر بدورها في طريقة استقبال الأزمات ورؤيتها ، وطريقة الاستجابة والتكيف مع هذه الأزمات والصعاب . فبعض الناس على سبيل المثال معتادون على رؤية الأحداث وحتى الصغيرة منها على أنها أزمات كبيرة وكوارث ، أو إنهم يخفقون في مواجهة هذه الأحداث . بينما يتحلى البعض الآخر برباطة الجأش والقدرة المرتفعة على التكيف مع الأحداث والأزمات دون أن تحدث اضطرابا كبيرا في استقرارهم وحياتهم النفسية.
إن الذين يصابون بالأمراض النفسية كثيرا ما يعانون من اضطراب مسبق في الشخصية ، وقبل حدوث المرض النفسي ، وإن كانت هذه الصلة غير واضحة تماما . وهناك اعتقاد ان الشخصية السابقة لحدوث المرض لا تحدث المرض بحد ذاته ، وإنما تحدد شكل الإصابة ونوعيتها وشدتها إن حدثت . وهناك أشكال متعددة لاضطرابات الشخصية ، وعلى سبيل المثال هناك الشخصية القلقة ، والوسواسية ، والعاطفية المتقلبة ، والاكتئابية الحزينة ، والفصامية المنطوية . وليس بالضرورة عندما يصاب أصحاب الشخصية الوسواسية بمرض نفسي أن يكون هذا المرض هو "الوسواس القهري" بالذات ، وإنما قد يأخذ شكلا آخر ، بينما نجد أن أصحاب الشخصية العاطفية المتقلبة غالبا ما يتعرضون للإصابة بمرض " الاكتئاب " أو " الهوس الاكتئابي " . ففي هذه الشخصية العاطفية نجد أن الشخص دائم التقلب بين الحزن والفرح الشديدين وحتى لأقل سبب . وهذا لا يعني أن الشخصية العاطفية هي التي قد أحدثت مرض الهوس الاكتئابي ، فكل منهما يمكن أن يكون ناتجا عن عوامل أخرى مستقلة عن بعضها (23 ).
3- الوراثة :
       معناها الانتقال الحيوي ( البيولوجي ) من خلال المورثات        ( الجينات ) من الوالدين إلى الأولاد في لحظة الحمل . وأهم ما يتأثر بالوراثة التكوينات الجسمية مثل الطول والوزن ولون البشرة ولون الشعر ولون العينين والتكوينات العصبية ومعدل نشاط الغدد ......... إلخ .(7)
إن معظم الناس يعلمون أن الأمراض العقلية غير :معدية" ، ولكن الاهتمام الأكبر هو في قضية أن ينتقل المرض للأولاد بالوراثة . وهذا الموضوع هو من الأمور الهامة في البحث الطبي خلال السنوات الماضية ن حيث وجد أن التأثير الوراثي أمر ثابت في بعض الأمراض النفسية كالفصام ، والهوس الاكتئابي ، وإن كانت طريقة تأثير الوراثة ما زالت غير واضحة تماما . ويبدو أن دور الوراثة أنها تهيؤ الشخص للإصابة بالمرض النفسي ، ولكن هذه الإصابة لا تحدث إلا بتدخل عوامل أخرى مباشرة تؤثر في هذا الإنسان المعرض وراثيا للإصابة .  
وكلما كانت الصلة العائلية أقرب للمصاب كلما زاد احتمال الإصابة ، فإمكانية إصابة أولاد المصاب أكبر من إمكانية إصابة أبناء عمه . ولكن يبقى احتمال إصابة الأولاد دون الإصابة الأكيدة بكثير ، أي ليس بالضرورة أن يصاب الأولاد ، وهذا دليل على أن الإصابة ليس مردها الوراثة فقط ، وإنما هناك أيضا مشاركة الابن لوالده ( أو والدته ) في البيئة والمعيشة . وقد جاء أن التوأمان المتماثلين والذين يشتركان في نفس نوعية العوامل الوراثية ، حتى لو أنهما عزلا عن بعضهما وعن أسرتهما ، وربيا في أسرتين مختلفتين منذ الأسابيع الأولى من حياتهما يبقى احتمال إصابة أحدهما احتمالا كبيرا إذا كان التوأم الآخر مصابا بمرض نفسي . وهذا من أقوى الدلائل على التأثير الوراثي .
وسيبقى تأثير الوراثة في الأمراض النفسية الخفيفة وفي اضطرابات الشخصية تأثيرا أقل وضوحا من غيره ، وإن كان لها بعض التأثير في بعض صفات شخصية الإنسان . فاحتمال إصابة أقرباء المصاب بالقلق مثلا احتمالا كبيرا بسبب المعايشة المشتركة أكثر من كونه تأثير العوامل الوراثية .
ويذكر الطبيب عادة كمثال على الأمراض التي تؤثر بها الوراثة بشدة مرض " رقص هنتغتن "Huntington,s chorea  وهو مرض عصبي نفسي ، حيث يصاب المريض باضطرابات عصبية وعضلية تظهر في حركات الجسم ، وكأن المريض يرقص ، بالإضافة إلى الاضطرابات النفسية المتعددة . وهذا المرض يصيب فقط من انتقل إليه الداء بالوراثة ، حيث يكون احتمال ظهور الإصابة بعد انتقال الجينات أو العوامل الوراثية من أحد الوالدين احتمالا كبيرا يصل إلى الخمسين في المئة .
4- عناصر الدماغ الكيماوية :
تحاول الكثير من الأبحاث الطبية النفسية أن تركز على فهم هذا الجانب من أسباب الأمراض النفسية . ومن المعروف أن الجملة العصبية والدماغ خاصة يعمل من خلال مواد كيماوية تصنع داخل الخلايا ، وتمر عبر هذه الخلايا لتنقل الأثر من خلية لأخرى مجاورة . وتسمى هذه المواد الكيماوية النواقل العصبية Neuro-transmitters . تطلق الخلية العصبية بعض هذه النواقل العصبية لتذهب وتؤثر بدورها على مستقبلات كيماوية خاصة متواجدة على سح الخلية العصبية المجاورة ، و بذلك تنتقل " الأوامر " العصبية عبر الجملة العصبية .
وغير معروف بدقة عدد هذه النواقل إلا أن هناك العشرات منها . وكل واحد له دوره وتأثيره الخاص المثير أو المهدئ للخلية العصبية . وتؤثر هذه النواقل في بعضها البعض ، إما معدلة أو مثيرة ، بحيث يكون الأثر النهائي عبارة عن مجموع ومحصلة تدخل عدد من هذه النواقل العصبية .
ولهذه النواقل دور كبير في وظيفة العواطف والمشاعر والتفكير والنوم والحركة والشهية للطعام والرغبة الجنسية ، وغيرها من الأنشطة والفعاليات . ويعتقد أن خللا في بعض وظائف هذه النواقل يتدخل مباشرة في إحداث بعض الأمراض النفسية ، فالزيادة أو النقصان في كمية هذه النواقل ، أو بشكل أدق اضطراب التوازن بين بعض النواقل يؤثر بشكل مباشر في الحالة العقلية والنفسية للإنسان .
وكثير من الأدوية التي تستعمل في معالجة الأمراض النفسية تفيد علاجا عن طريق التأثير في النواقل العصبية هذه ، مفعلة أو معطلة لها ، وبذلك تعدل الحالة النفسية للمريض . ومازال هذا الجانب من الطب النفسي يتوقع الاكتشافات الكثيرة خلال السنوات القادمة .
5 – الصحة الجسدية :
       إن لحالة الجسم الصحية وللكثير من الأمراض العضوية تأثير كبير على الصحة النفسية للإنسان ، فالهذيان مثلا وهو اضطراب عقلي يؤثر بشدة على معظم الوظائف العقلية والنفسية ، وهو ينتج عادة عن تعرض الدماغ للأذى المباشر بسبب بعض الأمراض ومنها رضوض الرأس الشديدة ، والنزف الدماغي ، والأورام الدماغية العصبية ، والتهابات الدماغ ، وحالات التسمم الحاد وكثير غيرها .
       وهناك أيضا الخرف الشيخي ، وهو الذي يشاهد عندما تضعف وتضطرب عند المصاب المسن معظم الملكات العقلية ، من التفكير والذاكرة والعاطفة والسلوك ، فإنه يحدث بسبب بعض الأمراض المزمنة  كنقص بعض الفيتامينات التي لها وظيفة أساسية في الدماغ ، مما ينتج عنه موت بعض الخلايا العصبية ، والتي يصعب شفاؤها أو استبدالها بخلايا جديدة ، إن الهذيان يعتبر الشكل الحاد القصير الأمد ، بينما يعتبر الخرف الشيخي الشكل المزمن الطويل الأمد .
       وهناك أمراض جسدية عامة لا تنشأ في الدماغ أو الجملة العصبية إلا أنها تسبب أعراضا عصبية ونفسية . فقد تظهر أعراض القلق والاكتئاب بسبب اضطراب في بعض الغدد الصماء ، كغدة الدرق المتواجد في العنق . وكذلك قد يظهر الاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية عقب الأمراض الطويلة مثل الإنفلونزا ، والتهابات الكبد ، وأمراض القلب ، والأمراض العصبية والعضلية المعقدة المزمنة . وكذلك من العوامل الهامة في أحداث الأمراض النفسية ما يحدث للمرأة الحامل من عواقب الولادة ، وما يتعرض له الوليد من رضوض وأذيات الدماغ ، فقد وجد مثلا كثرة حدوث رضوض الولادة هذه عند الأطفال الذين يصابون بعد بلوغهم ببعض الأمراض النفسية كالفصام  .

6 – الأزمات والصعوبات الحياتية :
       هناك نوعان من الأزمات والصعوبات الحياتية التي يتعرض لها الإنسان ، والتي قد يكون لها أثر على حياته العقلية والنفسية . النوع الأول هو الصعوبات الطويلة الأمد ، والتي تجعل الإنسان عرضة ومهيأ للإصابة بالأمراض النفسية . ومن هذه الصعوبات العيش على دخل مالي دون تلبية الاحتياجات المطلوبة ، أو انعدام العلاقات الاجتماعية بفقدان الأصدقاء والأقرباء ، والعطالة عن العمل ، والمشكلات الزوجية . فهذه الصعوبات تحدث لدى الإنسان توترا ، وغضبا وسخطا ، مما قد يعرضه لبعض المضاعفات النفسية . ومن المعروف أن الأمراض النفسية أكثر انتشارا بين الذين هم معرضون لمثل هذه الصعوبات ، وإن كان يصعب أحيانا معرفة فيما إذ كانت هذه الصعوبات بالذات سببا للمرض النفسي ، أو على العكس أن هذا المرض هو الذي دفع الإنسان للعيش في مثل هذه الظروف المحرومة الصعبة ، بحيث تصعب معرفة السبب من المسبب . وعلى سبيل المثال فقد وجد أن المصابين بمرض الفصام يتعرضون بعد بداية مرضهم للتدهور والتدني إلى مستوى معيشة أقل كثيرا من مستواهم أو مستوى أهليهم قبل المرض . ومن المحتمل أيضا أن ذات الأسباب التي تحدث المرض النفسي تؤدي في نفس الوقت وبأسلوب مباشر إلى الصعوبات الأخرى كالمشكلات الزوجية أو المهنية  (23 ).
       والنوع الثاني من الصعوبات الحياتية هي " الحوادث الحياتية الهامة " في حياة الإنسان ، والتي قد تثير وبسرعة المرض النفسي . وقد تعتبر هذه الحوادث " الضربة القاضية " الأخيرة في إحداث هذا المرض لدى شخص كان معرضا للمرض بسبب العوامل الأخرى السابقة الذكر ، إلا أن هذا الإنسان كان متكيفا لحد ما مع هذه الحياة حتى أتت هذه الحادثة الأخيرة  .
       وقد صنفت هذه الحوادث بحسب درجة شدتها وتأثيرها على حياة الإنسان إلى عدة أنواع ، فكلما كانت الحادثة أشد ، أو كلما تعددت هذه الحوادث في وقت واحد ، كلما ازداد احتمال تأثيرها السلبي على الحياة النفسية للإنسان . ويأتي على رأس هذه القائمة وأكثرها شدة موت شريك الحياة من زوج أو زوجة ، ويأتي عقب هذا حوادث الطلاق ، ثم وفاة قريب في الأسرة ، وحوادث أخرى من بعد ذلك . وليست كل الحوادث الهامة هذه بالضرورة حوادث محزنة أو غير مرغوب فيها ، وإنما هناك الزواج والانتقال إلى منزل جديد ، واستقبال مولود في الأسرة ، والسفر للخارج ، كلها حوادث رغم كونها مفرحة إلا أنها قد تزيد في قلق الإنسان ، وتحدث اضطرابا في تكيفه العام  .
       ويعتقد بشكل عام أن الحوادث الحياتية هذه تحدث الاكتئاب عند المعرض للمرض إذا ما شعر هذا الإنسان باليأس ، وفقد الأمل عقب فقدان قريب أو عزيز ، أو حتى عقب خيبة أمل في أمر من الأمور ، بينما الحوادث التي تسبب بعض المخاطر أو التهديد بالأذى أو الموت كالعمليات الجراحية ، والكوارث الطبيعية ، فإنها أقرب إلى إحداث القلق والاضطراب ، وإن كان هذا ليس بالضرورة . ويبدو أن الناس يتفاوتون لحد كبير في مدى تعرضهم وتهيؤهم وتحملهم للآثار السلبية لحوادث الحياة .
7 – فقدان الدعم والتأكيد الاجتماعي :
       إن العزلة الاجتماعية ، وانعدام الأصدقاء والأقرباء من حول الإنسان لتزيد من احتمال تعرضه للأمراض النفسية ، وخاصة وقت الأزمات . فوجود صديق أو عزيز يفتح له الإنسان قلبه ، ويشرح له ما يقلقه ، ويشاركه الرأي في معالجة مشكلة من المشكلات لأمر مفيد ونافع للصحة النفسية . فشعور الإنسان بالانتماء لمجموعة معينة من الناس أمر يخفف عنه من الشعور بالعزلة والإنفراد . وقد تحدث هذه العزلة بسبب هجرة الفرد إلى مدينة غير مدينته بعيدا عن أهله وأصدقائه ، أو بالاغتراب إلى بلد لآخر ، أو قد تتواجد لدى المجتمعات التي تضعف فيها العلاقات الاجتماعية والأسرية . ولذلك فالقيم والممارسات التي تدعو وتؤكد على صلة الرحم لتفيد كثيرا في حفظ صحة المجتمع ، والوقاية من الاضطرابات النفسية . وتعمل العلاقات الحميمة الودودة كعامل وقاية ضد الآثار السلبية والصدمات الناتجة عن الحوادث المعاشية ، والشيء الهام هو نوعية هذه العلاقات ، فعلى سبيل المثال إن الفرد الأعزب قد يكون أكثر عرضه للأزمات النفسية من المتزوج ، ولكن زواجا غير ناجح ، بما فيه من اضطرابات ومشاكل أسرية قد يكون بحد ذاته مصدرا للأزمات ، بدل أن يكون سكنا ومعينا على مثل هذه الأزمات .
       ولا يعرف بشكل دقيق كيف يؤثر الدعم الاجتماعي في التخفيف من التعرض للازمات النفسية ، مع أته من الواضح وجود الأثر الوقائي  ولكن يجب الانتباه هنا لنفس الأمر الذي ذكر من قبل ، حول صعوبة التفريق بين سبب المرض ونتائج المرض ، لأنه يحتمل أن المصاب بالاكتئاب لم يكتئب لفقد أصدقائه وإنما على العكس فقد فقدهم بسبب مرضه ، وبسبب أثر هذا المرض على علاقاته مع الآخرين . ويحتمل أيضا أن يدعي هذا المكتئب بأنه لا قريب له ، ولا حميم ن لا لفقدانهم حقيقة ، وإنما في الواقع بسبب عاطفته المكتئبة ، وأثرها على نظرته للحياة والآخرين ، فهو لا يرى إلا الجوانب السلبية في حياته وحياة الآخرين .    
8- الحمل والولادة :
ليس هناك ما يشير إلى أن الحوامل أكثر عرضة للأمراض النفسية ، إلا أن الولادة بحد ذاتها ، قد تسبب بعض الحالات النفسية من الاكتئاب ، والتشوش الذهني ، وحتى شكل من الفصام القصير الأمد . وقد تبدأ هذه الحالات ولأول مرة بعد أيام من الولادة . ولا يعرف تماما أسباب ارتباط الولادة ببعض الأمراض النفسية ، إلا أنه يقترح أن هناك دور هام للتبدلات الهرمونية وقت الولادة ، بالإضافة إلى عوامل أخرى كالجهد والإنهاك وقت الولادة ، وكذلك الصعوبات النفسية والاجتماعية التي قد تصاحب استقبال المولود الجديد ، وخاصة لدى الأم التي تفتقد الخبرة العملية في رعاية وليدها ، أو التي لا تتلقى الدعم والمساعدة والتأييد الاجتماعي الأسري الكافي ممن حملها .
9- التقليد والاكتساب بالتعلم :
قد تكون بعض أنواع الأمراض النفسية الخفيفة كالقلق والرهاب أو الهلع ، نتيجة لعملية تعلم خاطئ وفق مبادئ المنعكس الشرطي في المدرسة السلوكية . وهذا يعني ببساطة ، أن الذي يتعرض مثلا لحادثة مخيفة في ليلة من الليالي ، كهجوم كلب عليه ، قد يتطور عنده الأمر ليصبح مصابا بالرهاب من الليل ، أو الظلمة بشكل عام . وقد يتطور الأمر أكثر ، فإذا المصاب يخشى من الخروج من منزله ، ولا يعود يشعر بالطمأنينة إلا في منزله ، إلى حد لا يستطيع معه متابعة عمله وواجباته اليومية خارج المنزل ( 23 ).

والخلاصة حول أسباب الأمراض النفسية ، أن هذه الأمراض قد تنتج عن أسباب متعددة متداخلة ، نفسية واجتماعية وعضوية ، والغالب أن يشترك أكثر من عامل واحد من هذه العوامل ، وإن كنا نجد أحيانا الأثر الأكبر لأحد هذه العوامل دون غيره . 
xx
[تصفح أقسام المكتبة المجانية][grids]