الاضطرابات النفسية الجسمية ( السيكوسوماتية )

Psychosomatics
       ما من مرض جسمي يصيب عضوا من أعضاء الجسد ، أو أي نظام في الجسم كله ، إلا ويتداعى سائر الجهاز العصبي المركزي ، فيستجيب لذلك المرض الذي حل بجزء معين من الكيان العضوي للإنسان ، وذلك استجابة للعملية المرضية Pathological Process الطارئة أو المزمنة (17 )
لذا " اعترى أوساط الأطباء هزة من الدهشة يوم فاجأها رجلان من كبار جراحي العالم ، هما ( Havery Cushing ) مؤسس جراحة المخ ، و (Chares Mayo ) مؤسس المستشفى الجراحي المشهور باسمه في أمريكا ، فأعلنا في حقل طبي كبير ، أنهما يريان أن قرحة المعدة تنشأ من التوترات الانفعالية ، أي من أسباب نفسية ، ومع ذلك قدما الدليل التجريبي على صحة رأيهما ... " (29 )
" لقد كان الرأي الطبي على أن قرحة المعدة تنشأ من اختلال فحواه أن غشاء المعدة يتآكل بفعل عصيرها الحامض ، مثله في ذلك مثل الطعام . ولكن الأسباب المؤدية إلى هذا الاختلال الوظيفي بقيت غامضة  حتى تلاحقت الأدلة في السنوات الأخيرة تثبت تأثير الانفعالات النفسية في وظائف المعدة ، وما تحدثه من اضطراب خطير قد يؤدي في النهاية إلى آفة القرحة " (28 )
" ويجدر بنا أن نذكر للتو مشاهدات ولف ( Wolf  ) وزميله لحالة فريدة لاشك أنها وثيقة ناطقة في هذا الصدد . فقد أتيح لهما أن يشاهدا مريضا أجريت له عملية جراحية ( من حوالي قرن مضى ) هيأ له الجراح بها فتحة خارجية في المعدة أشبه بفم معدي ، فكان يمضغ طعامه ويصبه في أنبوبة تدخل إلى المعدة عن طريق هذه الفتحة . وقد استطاع ولف وزميله أن يراقبا خلال هذه الفتحة تأثير المنبهات المختلفة في غشاء المعدة المخاطي ، وفي حركة جدرانها . فتبين أن كثيرا من الانفعالات مثل القلق النفسي والغضب بنوع خاص يستثير حركة بالغة وإفرازا حامضيا عظيما . وإذا دامت هذه التغيرات زمنا طويلا واشتد فعلها ، ظهرت في غشاء المعدة بقع من النزيف ومظاهر تقرح ، لا تلبث - إذا طال الأمد - أن تتحول إلى قرحات حقة . حتى إذا هدأ الإفراز ، وهبط الاحتقان ، وقلت الحركة ، فإن هذه القرحات لا تلبث أن تندمل . وقد سبق للجراح الأمريكي الكبير ( كوشنج Cushing  ) أن شاهد ظهور قرحات في المعدة لدى بعض المرضى ، على عقب تهيج الجهاز الباراسبمتاوي عند إجراء عمليات في المخ المتوسط (30 ).
       وتدلنا الملاحظة على انتشار قرحة المعدة لدى الجموحين من رجال الأعمال ، ويدل سلوك المرضى بآفة القرحة على أنهم ينزعون في غير هوادة إلى مواجهة العقبات ومغالبتها ، فنرى المريض وكأنه يوعز : ( إنني رجل القدرة والنشاط والإنتاج ، وإنني أهل للمنح ، وتقديم العون للناس وتحمل التبعات ، أحرص على أن يتوكل علي الناس ، وأن أكون الزعيم المقتدر ، لا يعوزني شيء ولا أسأل أحدا ) . ولكن التحليل النفسي يكشف عما يخفيه هذا السلوك الظاهر من ميول دفينة هي نقيض هذا السلوك ، ميول قوية إلى أن يكونوا موضع الحب والعطف ، ورغبة ملحة في تلقي العون والاتكال على الغير .
       كما يدل التحليل النفسي على أن هؤلاء المرضى ينكرون على أنفسهم هذه الميول الدفينة ، فيكتمونها في أعماقهم ، ويقوم في أنفسهم بشأنها صراع خفي عنيف . يبدو – إذن – أن ما يميز سلوك هؤلاء المرضى هو التنكر لما يراودهم من حاجة إلى التماس الحب والركون إلى الغير ، فعوضا عن أن يتلقوا من الغير ، نراهم يبذلون العطاء ، وعوضا عن الاعتماد على الآخرين نراهم يجهدون في سبيل الاستقلال والاكتفاء الذاتي .
       أما الدافع إلى تنكر هؤلاء المرضى لميولهم فهو ما يشعرون بما تنطوي عليه من عودة إلى الطفولة ،حين كان الطفل حضينا معتمدا على أبويه ، لا يقوى إلا على تلقي الحب والعون منهما .
       وليس من العسير أن نتبين العلاقة بين ما يدور من صراع في نفوس هؤلاء المرضى وبين اختلال وظائف المعدة لديهم ، ذلك أن الميل إلى تلقي الحب والغذاء يرتبط ارتباطا وثيقا بعمليات التغذية منذ الطفولة الأولى ، حين كان الطفل يتلقى الحب والغذاء معا من يد واحدة . فالأم حين تحضن طفلها ترضعه ثديها ، إنما تهبه فوق ذلك حرارة صدرها وحنان قبلاتها . يقترن – إذن – تناول الطعام بتلقي الحب منذ فجر الحياة  بحيث يصبح استقبال الطعام رمزا وبشيرا بقدوم الحب ، فإن الحرمان الذي يفرضه هؤلاء المرضى على أنفسهم لا يلبث أن يستثير وظائف التغذية ، فتنشط المعدة إلى الحركة وإلى إفراز عصيرها كأنها تتأهب لاستقبال الطعام .
       وكلما كان التنكر لهذه الميول عظيما كان إلحاحها شديدا ، وكان بديلها الفسيولوجي ، أعني نشاط المعدة إلى الإفراز كبيرا . ولكن إفراز المعدة في هذه الظروف ليس طبيعيا ، لأنه غير مقترن بتناول الطعام ، بحيث إن تدفق العصير المعدي الحامضي مع خلوها من الطعام لابد أن  ( يؤدي ) إلى اضطراب مزمن قد ينتهي إلى تآكل غشاء المعدة وتكوين القرحة (28 )
       ولا يفوتنا أن نشير إلى أن التحليل النفسي للحالات المرضية ، قد أثبت أن أعراض الأمراض النفسية وانحرافات الشخصية لها معنى يمكن معرفته من تحليل المرضى والمنحرفين ، كما أن لها وظيفة تؤديها للشخصية ، ومن هنا كان تمسك الشخصية بها وتشبثها ببقاء المرض أو الانحراف ، نظرا للكسب الذي يعود على الشخصية منها . كما أثبت التحليل النفسي – أيضا – أن لهذه الأعراض المرضية منطقا تخضع له يكشفه التحليل ، فكأن الأعراض المرضية عندئذ مقصودة وهادفة ، لكن كل ما هنالك أنه قصد لاشعوري ، وهدف مموه ممسوخ حتى يتفادى قوى الكبت والمقاومة ويفلت منها . ومن هنا ، تبدو أعراض الأمراض النفسية غير مفهومة ، صعبة التفسير ، ويلزم لحل ألغازها وعلاجها أن يخضع المريض لعملية تحليل نفسي ، ذلك لأنه لا يعي عنها شيئا باعتبارها لاشعورية برمتها . كما ينبغي أن نشير – أيضا – إلى أن قابلية كل مرض للعلاج والشفاء تختلف عن غيره ، بل إن قابلية كل مريض بنفس المرض سوف تختلف – من حيث الشفاء – عن غيره ، تماما كما هو الحادث بالنسبة للأمراض الجسمية ( 19 )
تعريف الاضطرابات النفسية الجسمية :
الاضطرابات النفسية الجسمية هي اضطرابات جسمية موضوعية ذات أساس وأصل نفسي ( بسبب الاضطرابات الانفعالية ) ، تصيب المناطق والأعضاء التي يتحكم فيها الجهاز العصبي الذاتي . ويوجد فرع كامل من فروع الطب الجسمي Psychosomatic Medicine يهتم اهتماما خاصا بهذه الاضطرابات .
النفس والجسم :
الإنسان يسلك في محيطه البيئي كوحدة نفسية جسمية ، تتأثر الحالة النفسية بالحالة الجسمية والعكس صحيح في توازن تحت الظروف العادية لشخصية سوية متوافقة . والجسم يعتبر وسيطا بين البيئة الخارجية وبين الذات ككيان نفسي ، ويؤدي الضغط الانفعالي الشديد المزمن واضطراب الشخصية إلى أن يضطرب هذا التوازن .
وهناك علاقة مباشرة بين الانفعالات والجهاز العصبي الذاتي تنتقل إليه هذه الإنفعالات عن طريق المهيد hypothalamus والجهاز العصبي الذاتي يترجم التوتر الانفعالي المنقول إليه إلى تغيرات فسيولوجية في وظائف الأعضاء . والأجهزة التي يسيطر عليها الجهاز العصبي الذاتي هي : الجهاز الدوري والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والجهاز العددي والجهاز العضلي والهيكلي والجهاز التناسلي والجهاز البولي والجلد .
وكتوضيح على أن الانفعال يؤثر على العمليات الفسيولوجية نجد أن انفعال الحزن يؤدي إلى انسكاب الدموع وأن انفعال الغضب يؤدي إلى إسراع ضربات القلب وأن انفعال الخجل يؤدي إلى احمرار الوجه وأن انفعال الخوف يؤدي إلى شحوب الوجه وأن القلق يؤدي إلى فقد الشهية . ومن المعروف أنه كما يسبب المرض الجسمي الاكتئاب ، فإن الإرهاق العصبي يؤثر في وظائف أعضاء الجسم المختلفة .
ونحن نعلم أنه لا يوجد جسم بدون نفس إلا الجماد والجثث ، ولا يوجد نفس بدون جسم إلا الأرواح والأشباح ، ولا يوجد مرض جسمي بحت يؤثر في الجسم دون النفس ، ولا يوجد مرض نفسي بحت يؤثر في النفس دون الجسم . وإذا حدث أن أعيق التعبير الانفعالي وتوالي الإحباط والصراع والقمع والكبت وأزمن الانفعال بدأ تحويله وظهرت الأعراض النفسية الجسمية .
أسباب الاضطرابات النفسية الجسمية :
وفيما يلي أسباب الاضطرابات النفسية الجسمية :
1- الأمراض العضوية في الطفولة التي تزيد احتمال تعرض أعضاء معينة من الجسم للمرض ، وقلق الفرد على صحته .
2- اضطراب العلاقات بين الطفل والوالدين في عملية الغذاء والتدريب على الإخراج ، ونقص الأمن وفقد الحب والخوف من الانفصال والحرمان والحاجة إلى القبول ، وفقر واضطراب المناخ الانفعالي في المنزل وسيادة جو العدوان والمشاحنات والغيرة ، والخلافات السرية وعدم السعادة الزوجية ..الخ .
3- الصراع الانفعالي الطويل مثل الصراع بين الاعتماد على الغير وبين الاستقلال . والكبت الانفعالي ( وخاصة كبت الغضب المرتبط بنقص القدرة والقوة ) والعدوان المكبوت واختزان الحقد والغيظ والشعور الطويل بالظلم ، والضغط الانفعالي الشديد المستمر والتوتر النفسي ، والانفعالي الطويل المزمن واستدخال التوتر وتحويله داخليا وتسلطه على عضو ضعيف ، فيحدث اضطراب في طاقته الوظيفية العادية . والخوف وعدم الشعور بالأمن . والاحباطات المتراكمة في الأسرة والعمل ، والقلق الشامل المستمر وخاصة عندما يوجد حائل دون التعبير اللغوي أو النفسي أو الحركي عنه . والحزن العميق على وفاة عزيز أو الطلاق أو الفشل ، والمطامح غير الواقعية أو غير الممكن تحقيقها . والضغوط الاجتماعية والبيئية واضطراب العلاقات الاجتماعية .
4 – التجارب الجنسية الصادمة ، أو الحب المحرم ، ومشاعر الإثم ، وعدم الرضا الدائم .  
5 – التعرض للمواقف الحربية العنيفة .
تشخيص الاضطرابات النفسية الجسمية :
1 – يجب أولا الاهتمام بالفحص الطبي الشامل ، واستطلاع تاريخ حياة المريض وتاريخ المرض وتكوين وبناء الشخصية .
2 – ويلاحظ أن المريض لا يعرف بسهولة بأن مرضه نفسي جسمي ، ولكنه يسر غالبا على أنه جسمي فقط .
3 – ويلاحظ ، أيضا أنه عند معرفته بهذا التشخيص ، تبدو دفاعاته النفسية في النشاط بشكل ملحوظ ، وقد تزداد حدة نوبة المرض ، بشكل واضح ، أثناء محاولة التشخيص .
4 – ومن العلامات الدالة ، على أن الاضطراب نفسي جسمي : وجود اضطراب انفعالي ، يعتبر عاملا مرسبا ، وارتباط الحالة بنمط معين من أنماط الشخصية ، ووجود اضطراب نفسي جسمي سابق لدى المريض ، ووجود تاريخ مرضي في الأسرة لنفس المرض أو اضطراب مشابه ، وسير المرض يكون مرحليا ( مراحل شفاء ومراحل مرض ) .
5 – ويلاحظ الشبه الكبير بين أعراض المرض النفسي وبين أعراض التوتر الانفعالي .
6 – ويجب التفرقة بين العرض النفسي الجسمي وبين العرض كأحد أعراض الأمراض النفسية الأخرى . فمثلا قد تكون العنة أو الضعف الجنسي أو البرود الجنسي أو فقد الشهية العصبي اضطرابا نفسيا جسميا في حد ذاته ، وقد تكون عرضا من أعراض الاكتئاب .

7 – ويجب المفارقة بين الأعراض النفسية الجسمية وبين الأعراض الهستيرية ، فمثلا في الهستيريا تصيب الأعضاء التي يسيطر عليها الجهاز العصبي المركزي ، والأعراض تعتبر تعبيرات رمزية غير مباشرة عن دوافع مكبوتة ، وتخدم غرضا شخصيا لدى المريض . بينما في المرض النفسي الجسمي تصيب الأعضاء التي تسيطر عليها الجهاز العصبي الذاتي ، والأعراض عبارة عن نتائج مباشرة لاضطرابات انفعالية تخل بتوازن الجهاز العصبي الذاتي .
xx
[تصفح أقسام المكتبة المجانية][grids]